
اضطراب الشخصية النرجسية: أسبابه وطرق علاجه
في عالم يتزايد فيه التركيز على الذات والمظاهر والإنجازات، من الطبيعي أن نلتقي بأشخاص يتمتعون بثقة عالية بأنفسهم، وربما يميلون إلى التفاخر أو حب الظهور. لكن متى تتحول هذه السمات إلى اضطراب نفسي؟
الفهرس
اضطراب الشخصية النرجسية (Narcissistic Personality Disorder) هو واحد من اضطرابات الشخصية التي تصف نمطًا طويل الأمد من الشعور بالعظمة، والحاجة المفرطة للإعجاب، مع نقص في التعاطف مع الآخرين.
يُعد هذا الاضطراب من الاضطرابات النفسية المعقدة، ويؤثر على العلاقات الاجتماعية، والحياة العملية، وحتى القدرة على إدراك الذات بشكل واقعي. فهم هذا الاضطراب لا يساعد فقط في التشخيص والعلاج، بل يسهم أيضًا في تحسين العلاقات الشخصية والمهنية، سواء للمصاب أو المحيطين به.
مفهوم اضطراب الشخصية النرجسية
اضطراب الشخصية النرجسية هو نمط ثابت من السلوكيات والمشاعر التي تتركز حول الشعور المفرط بأهمية الذات، والرغبة المستمرة في الإعجاب والاهتمام، مع نقص واضح في القدرة على التعاطف مع الآخرين. يبدأ الاضطراب عادة في مرحلة المراهقة المتأخرة أو أوائل البلوغ، ويظهر بشكل واضح في العلاقات الشخصية والمهنية.
الشخص النرجسي لا يرى نفسه كما هو، بل يرى “نسخة مثالية” يفرضها على الواقع، وغالبًا ما يبالغ في إنجازاته وقدراته، ويعتقد أنه يستحق معاملة خاصة دون مبرر. كما يصعب عليه تقبّل النقد أو الفشل، ويشعر بالحسد تجاه الآخرين، أو يعتقد أنهم يحسدونه.
من المهم التمييز بين اضطراب الشخصية النرجسية وبين سمات النرجسية الطبيعية الموجودة بنسب متفاوتة في الجميع. لا يُشخّص الاضطراب إلا عندما تتسبب هذه الصفات في خلل واضح في حياة الشخص أو في علاقاته الاجتماعية أو المهنية.
أعراض اضطراب الشخصية النرجسية
تتنوع أعراض اضطراب الشخصية النرجسية، لكنها تدور جميعها حول نمط ثابت من التفوق المتخيّل، والحاجة الدائمة للثناء، والتقليل من شأن الآخرين. قد يبدو الشخص النرجسي واثقًا في نفسه بشكل مبالغ فيه، لكنه في العمق يعاني من هشاشة داخلية شديدة تجعله حساسًا للنقد أو التجاهل.
من أبرز الأعراض، شعور الشخص بأنه فريد من نوعه ولا يمكن فهمه إلا من قبل “أشخاص مميزين”، وتوقعه الحصول على معاملة خاصة باستمرار. كما يظهر استغلالًا للآخرين لتحقيق أهدافه الشخصية، دون النظر إلى احتياجاتهم أو مشاعرهم.
يتسم الشخص النرجسي بقلة التعاطف، ويجد صعوبة في فهم أو الاهتمام بمشاعر الآخرين. وفي علاقاته، قد يتصرف بأنانية شديدة، ويغضب بسهولة إن لم يُمنح الاهتمام الذي يراه مستحقًا.
يبحث عن الإعجاب بشكل دائم، سواء من خلال الكلام أو المظهر أو الإنجاز، وعندما لا يحصل عليه، قد يظهر استياءً أو اكتئابًا أو سلوكًا عدوانيًا. قد يبالغ في أهمية نجاحاته ويقلل من شأن الآخرين، ويتعامل معهم بتعالي أو ازدراء.
أسباب اضطراب الشخصية النرجسية
لا يوجد سبب واحد واضح يؤدي إلى اضطراب الشخصية النرجسية، لكن الأبحاث تشير إلى وجود تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والبيئية والنفسية. فيما يلي أبرز العوامل المساهمة:
- عوامل وراثية وبيولوجية:
- وجود تاريخ عائلي لاضطرابات الشخصية أو اضطرابات المزاج.
- اضطرابات في كيمياء الدماغ المرتبطة بتنظيم المشاعر والتعاطف.
- البيئة الأسرية والنشأة:
- تلقي الطفل لتربية مبالغ فيها في التقدير أو التحقير.
- الإهمال العاطفي أو الإيذاء النفسي في الطفولة.
- توقعات غير واقعية من الأهل حول النجاح والتميز.
- عوامل نفسية:
- ضعف الثقة بالنفس والشعور الداخلي بعدم الكفاءة.
- الاعتماد على التقدير الخارجي لتثبيت الهوية الشخصية.
- البيئة الاجتماعية والثقافية:
- المجتمعات التي تُمجّد الإنجاز والمكانة على حساب القيم الإنسانية.
- وسائل التواصل الاجتماعي وتعزيز ثقافة “الصورة المثالية”.
مقال ذي صلة: اضطراب الشخصية الحدية: أسبابه وطرق علاجه
أنواع اضطراب الشخصية النرجسية
اضطراب الشخصية النرجسية ليس نمطًا واحدًا، بل يمكن أن يظهر بعدة أشكال. بعض الباحثين يصنفون النرجسية إلى أنواع مختلفة، تشمل:
- النرجسية العلنية (Grandiose Narcissism):
- يشعر الشخص بالعظمة، والثقة الزائدة، والتفوق على الآخرين.
- يبحث باستمرار عن الإعجاب، ويظهر سمات واضحة من الغطرسة.
- النرجسية الخفية (Vulnerable Narcissism):
- يبدو الشخص حساسًا، وانطوائيًا، ويعاني من الشعور بالدونية.
- يتأثر بشدة بالنقد، ويشعر بعدم التقدير حتى لو لم يُظهر ذلك صراحة.
- النرجسية السامة (Malignant Narcissism):
- تجمع بين النرجسية واضطرابات أخرى مثل السادية أو جنون العظمة.
- سلوك عدواني ومؤذٍ للآخرين، ويصعب التعامل معه.
- النرجسية الاجتماعية (Communal Narcissism):
- يبالغ الشخص في تقديم نفسه كإنسان خيّر ومساعد للآخرين.
- يستخدم صورته “النبيلة” لتحقيق التقدير والإعجاب الاجتماعي.
طرق تشخيص اضطراب الشخصية النرجسية
يُشخص اضطراب الشخصية النرجسية من قبل أخصائي نفسي أو طبيب نفسي، بعد تقييم سريري دقيق يشمل تاريخ الشخص النفسي، وسلوكياته، وأنماط تفكيره وعلاقاته. يعتمد التشخيص على المعايير الواردة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، والتي تشمل وجود 5 أعراض أو أكثر من بين 9 محددة.
يجب أن تكون هذه الأعراض ثابتة على مدى زمني طويل، وأن تظهر في أكثر من سياق حياتي (العمل، العلاقات، المواقف الاجتماعية)، وأن تؤدي إلى خلل ملحوظ في الأداء الوظيفي أو العلاقات.
لا توجد اختبارات مخبرية أو أدوات تصوير دماغي لتشخيص هذا الاضطراب، لكنه يعتمد على المقابلة السريرية، وفي بعض الأحيان، مقاييس نفسية مثل اختبارات الشخصية.
من التحديات في التشخيص أن الأشخاص المصابين غالبًا ما لا يعترفون بوجود مشكلة، وقد يرفضون مراجعة الطبيب النفسي إلا في حال ظهور أعراض مرافقة مثل الاكتئاب أو اضطرابات القلق.
طرق العلاج اضطراب الشخصية النرجسية
رغم أن اضطراب الشخصية النرجسية يُعد من أصعب الاضطرابات في العلاج، إلا أن هناك وسائل فعالة يمكن أن تساعد في تحسين جودة حياة المصاب. وتشمل:
- العلاج النفسي (Psychotherapy):
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT) لتعديل الأفكار والسلوكيات النرجسية.
- العلاج الديناميكي لفهم الجذور العاطفية والسلوكية للاضطراب.
- العلاج الجماعي:
- يفيد في تحسين مهارات التفاعل الاجتماعي، والتقليل من التمركز حول الذات.
- العلاج الأسري:
- يساعد في تحسين التواصل بين المصاب وأفراد الأسرة.
- العلاج الدوائي:
- لا توجد أدوية مخصصة لهذا الاضطراب، لكن يمكن استخدام مضادات الاكتئاب أو القلق إذا وُجدت أعراض مرافقة.
- التثقيف النفسي:
- تعليم المصاب عن طبيعته النفسية، وتعليمه مهارات الوعي الذاتي.
- بناء علاقة علاجية قوية:
- من أهم عناصر العلاج؛ حيث يحتاج المصاب إلى الشعور بالقبول لتجنب المقاومة.
طرق الوقاية من اضطراب الشخصية النرجسية
لا توجد طريقة مؤكدة للوقاية من اضطراب الشخصية النرجسية، لكن يمكن التقليل من فرص تطوره من خلال تربية صحية ومتوازنة للأطفال، تُشجع على احترام الذات بدون تضخيم أو تحقير. من المهم تعليم الأطفال التعاطف مع الآخرين، وتقبّل النقد، وبناء صورة ذاتية واقعية.
كذلك، يجب أن توفر البيئة الأسرية دعمًا عاطفيًا وتقديرًا حقيقيًا، دون استخدام التقدير كأداة للتحكم. في حال ظهور مؤشرات مبكرة على السلوك النرجسي، يمكن للتدخل النفسي المبكر أن يُساعد في تعديل النمط قبل أن يترسخ كاضطراب دائم.
من الضروري أيضًا تعزيز مهارات التواصل العاطفي والتعامل مع التوتر منذ الصغر، وتشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم بصدق، بعيدًا عن التظاهر أو المبالغة. كما تلعب المدارس والمؤسسات الاجتماعية دورًا هامًا في تنمية القيم الاجتماعية والوعي النفسي، مما يحد من ظهور السلوكيات النرجسية المتطرفة.
بالإضافة إلى ذلك، توعية الأهل والمربين بأهمية التعامل بحذر مع التشجيع والمكافآت، بحيث لا تتحول إلى مدخل لتكوين شخصية متعجرفة أو متمركزة حول الذات. الدعم النفسي في حالات الطفولة الصعبة أو الصدمات العاطفية يساعد أيضًا في التقليل من احتمالية تطور اضطرابات الشخصية.
في الختام
اضطراب الشخصية النرجسية هو حالة نفسية معقدة تؤثر على إدراك الذات والعلاقات مع الآخرين. رغم أن الشخص المصاب يبدو واثقًا ومتباهيًا، إلا أن داخله قد يختبئ شعور عميق بالهشاشة والضعف. الفهم العلمي لهذا الاضطراب يُعد خطوة مهمة نحو تقديم الدعم المناسب وتحسين حياة المصابين وأسرهم.
العلاج النفسي، بالرغم من تحدياته، يفتح نافذة للأمل في إعادة بناء الذات وتطوير مهارات اجتماعية وعاطفية صحية. لذلك، من المهم البحث عن مساعدة متخصصة في حال ظهور علامات نرجسية مفرطة تؤثر على جودة الحياة.
بالوعي والتدخل المبكر، يمكن تقليل تأثير هذا الاضطراب والعيش بعلاقات أكثر صحة وتوازنًا، بعيدًا عن التصادمات والصراعات التي قد تنتج عن النرجسية غير المضبوطة.
المصادر المستعملة لكتابة المقال:
Trastorno de la personalidad narcisista – Síntomas y causas – Mayo Clinic
Trastorno de personalidad narcisista: MedlinePlus enciclopedia médica