الاضطراب المفتعل: مفهومه، أسبابه وطرق علاجه
عندما يُصاب شخص ما بمرض، غالبًا ما يطلب المساعدة الطبية بطريقة صادقة، لكن في حالاتٍ نادرة، قد يكون الدافع وراء المرض المزيف أعمق مما يبدو — إنه اضطراب نفسي يُدعى الاضطراب المفتعل. في هذا الاضطراب، يقوم الشخص عمدًا بتصنيع الأعراض أو المبالغة فيها أو التلاعب بنتائج الفحوصات ليتلقّى العناية الطبية، رغم غياب المبرر المادي الواضح. هذا التصرف لا يكون بغرض الحصول على منافع مادية مباشرة (مثل المال أو إجازة العمل)، بل غالبًا بدافع داخلي نفسي — كالرغبة في أن يُنظر إليه كمريض وحصوله على اهتمام أو رعاية طبية.
الفهرس
في هذا المقال، سنلقي الضوء بشكل شامل ومبسّط على مفهوم الاضطراب المفتعل، علاماته، أسبابه، أنواعه، كيف يُشخّص، كيف يمكن علاجه، وكيف يمكن التخفيف من مخاطره أو الوقاية منه. هدفنا أن نقدم لك مادة مفيدة إذا كنت باحثًا أو مهتمًا بالتعرف على هذا الاضطراب بوضوح ودقة.
مفهوم الاضطراب المفتعل
الاضطراب المفتعل (Factitious Disorder) هو حالة نفسية يتعمد فيها الفرد إظهار أعراض مرضية أو خلقها بنفسه، بغرض أن يُنظر إليه على أنه مريض، ويُقدّم له الرعاية الطبية.
هذا السلوك يختلف عن التمثيل (Malingering) — ففي التمثيل يكون الغرض مكسبًا خارجيًا واضحًا (كالحصول على تعويض مادي، أو تجنّب العمل أو السجن)، بينما في الاضطراب المفتعل يكون الدافع داخليًا نفسيًا، غالبًا رغبة في الاهتمام أو الشعور بالهوية كمريض.
وبحسب الأدلة، كثيرًا ما يكون الشخص المصاب مدركًا إلى حدٍ ما أنّ ما يقوم به من تزييف أو تلاعب، لكنه قد لا يكون واعيًا تمامًا للدوافع النفسية العميقة التي تدفعه إلى ذلك.
يُصنّف الاضطراب المفتعل ضمن الفئات التي يعالجها الطب النفسي، ويُدرج في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) كجزء من فئة «اضطرابات تصنّع الأعراض»، وهو اضطراب معقّد يصعب في كثير من الحالات تشخيصه والتعامل معه.
أعراض الاضطراب المفتعل
غالبًا ما يظهر الأشخاص الذين يعانون من الاضطراب المفتعل تاريخًا طبيًا غير واضح أو متناقضًا، مع شكاوى طبية غامضة أو متعددة الأجهزة، قد تشمل آلامًا مزمنة أو أعراضًا عصبية أو أمراضًا جلدية أو أحيانًا أعراض مزيفة لمسائل قلبية أو تنفّسية. قد يقوم الشخص بحقن نفسه بالجراثيم أو سموم أو مواد تهيّج الأنسجة، أو قد يتلاعب بعينات الدم أو البول لتبدو غير طبيعية. في بعض الحالات، قد يفتعل الجروح أو يتأخر في شفاءها عمدًا. كما قد يزوّر أو يغيّر نتائج التحاليل أو الفحوصات.
غالبًا ما يُظهر المصاب معرفة طبية أو استخدام مصطلحات طبية دقيقة، وقد يطالب بالتحاليل المتكررة أو التدخّلات الطبية، ويُبدِي مقاومة أو اعتراضًا إذا تم التشكيك في صحة شكاويه. قد تنتقل علاجاته عبر أطباء ومستشفيات متعددة، ويغير اسمه أو العيادة متى شعَر بأنه قد يكشف. بالرغم من (أو بسبب) ذلك، قد تتفاقم حالته الصحية أو تحدث مضاعفات، وقد يرفض الاعتراف بالدوافع النفسية أو يرفض العلاج النفسي حين يُعرض عليه.
يمكن أن تستمر هذه الأعراض لفترات طويلة، وقد تتغيّر بين فترات نشاط وتهاون، وقد تظهر أحيانًا بشكل مفاجئ بمضاعفات خطيرة — خاصة إذا أجريت عمليات غير ضرورية أو تم استعمال مواد ضارّة.
أسباب الاضطراب المفتعل
فيما يلي مجموعة من الأسباب والعوامل التي يعتقد أنها تسهم في نشوء الاضطراب المفتعل:
- تاريخ من الصدمة أو الإساءة في الطفولة (جسدية، نفسية أو جنسية)
- تجربة مرَضية سابقة في العائلة أو في الطفولة، أدّت إلى ارتباط عاطفي قوي بالرعاية الصحية
- نقص في احترام الذات أو هوية ضعيفة، والرغبة في أن يُنظر إليه كشخص يحتاج إلى رعاية
- وجود اضطرابات شخصية، خصوصًا اضطرابات الشخصية الحدية أو النرجسيّة
- وجود اضطرابات نفسية مرافقة، مثل الاكتئاب أو القلق
- العمل أو المعرفة بالمجال الطبي (المهنيين الصحيين أو من لديهم اطلاع واسع على المصطلحات الطبية)
- فقدان شخص مهم أو تجارب فشل أو مشاعر العزلة أو الفراغ
- الرغبة في التحكم بالبيئة المحيطة من خلال جذب الاهتمام أو المحافظة على دور المريض
هذه العوامل لا تفسّر وحدها حدوث الاضطراب، بل قد تعمل معًا في إطار بيولوجي ونفسي واجتماعي معقّد.
أنواع الاضطراب المفتعل
إليك الأنواع المعروفة للاضطراب المفتعل، في شكل نقاط:
- اضطراب مفتعل مفروض على الذات (Factitious Disorder Imposed on Self): في هذا النوع، يكون الشخص هو نفسه الذي يفتعل الأعراض أو يبالغ فيها أو يتلاعب بها.
- اضطراب مفتعل مفروض على الغير (Factitious Disorder Imposed on Another): ويُعرف أيضًا باسم «متلازمة مونشهاوزن بواسطة الغير» (Munchausen by Proxy)، حيث يُحدث المريض الأعراض في شخص آخر (غالبًا طفل أو قريب) ليُعطى دور الضحية أو المريض ويُكتسب الاهتمام من خلاله.
- اضطراب مفتعل مختلط (Mixed Factitious Disorder): حيث يجمع المصاب بين افتعال الأعراض لنفسه وبين التأثير على آخرين في أوقات مختلفة.
- نوع بدني، نوع نفسي أو مختلط
قد يكون التركيز على أعراض جسدية (جروح، اضطرابات هضمية، آلام مجهولة) أو على أعراض نفسية (الاكتئاب، الهلوسة، اضطراب الشخصية) أو مزيج من الاثنين. - نوع مزمن أو عرضي: هناك من يعاني من الاضطراب لفترات طويلة ومزمنة، وهناك من تظهر عليه فترات من النشاط المرضي تتخللها فترات هدوء أو توقف نسبي.
مقال ذي صلة: اضطراب التحويل: أعراضه، أسبابه وطرق علاجه
طرق تشخيص الاضطراب المفتعل
تشخيص الاضطراب المفتعل يعدّ من التحديات الكبرى في الطب النفسي والمجال الطبي عمومًا، لأن الشخص قد يظهر كحالة طبية حقيقية ويُخفي دوافعه الداخلية. يبدأ التشخيص عادة عندما يلاحظ الطبيب أو الفريق الطبي تناقضات في السجل الطبي أو سلوكيات مريبة مثل زيارة أطباء متعددة أو التبديل بين مستشفيات أو رفض تقديم السجلات السابقة. يُستخدم الاستقصاء السريري الدقيق، حيث يُجرى مقابلة موسعة مع المريض، وتتُطلب السجلات الطبية السابقة، وغالبًا يُحاول الطبيب العمل مع أفراد العائلة إن وافق المريض، لجمع المعلومات. يُراعى استخدام الفحوصات والتحاليل لكن بحذر، فقط ما يلزم لاستبعاد الأمراض الحقيقية.
قد يُشتبه بالاضطراب المفتعل إذا المرض لا يتبع المسار الطبيعي أو لا يتحسّن رغم العلاج الصحيح، أو إذا تكون النتائج المختبرية متناقضة أو متطرفة دون تفسير منطقي. في بعض الحالات، قد يُكتشف التلاعب بالعينة أو الجهاز (مثلاً تعديل محتوى عينة الدم أو الحرارة في مقياس الحرارة). في بعض الحالات يُضبط المريض متلبسًا أثناء التلاعب. التشخيص يستند إلى مزيج من الأدلة السريرية، التاريخ المرضي، المراجعة المتواصلة، والتحليل النفسي.
يتطلب التشخيص أيضًا استبعاد أمراض نفسية أخرى مثل اضطرابات الجسد (Somatic Symptom Disorder)، والهوس، واضطرابات التحويل، بالإضافة إلى التأكد من أن المريض لا يفيد من الدوافع الخارجية (كما في التمثيل). يجب أن يُنظر إلى التشخيص بحذر وبنهج غير اتهامي لتفادي دفع المريض للهرب من العلاج.
طرق علاج الاضطراب المفتعل
فيما يلي قائمة بالنُهج العلاجية المقترحة، على شكل نقاط:
- العلاج النفسي (Psychotherapy)، وخصوصًا العلاج المعرفي‑السلوكي
- العلاج النفسي الديناميكي أو التحليلي
- العلاج الأسري أو إشراك أفراد العائلة لدعم العلاج
- وجود طبيب أو “مُنسّق طبيّ واحد” لإدارة الرعاية وتجنب تعدد الأطباء
- العلاج الدوائي المساند لمعالجة الاضطرابات المرافقة (مثل مضادات الاكتئاب أو مضادات القلق)
- ضبط زيارات ومواعيد قصيرة متكرّرة لتعزيز التحالف العلاجي
- التدخُّل عند رفض المريض بالتعامل بلطف وعدم اتهام مباشر
- في الحالات الشديدة، قد يُستدعى الإقامة المؤقتة في مستشفى نفسي
- إدارة المضاعفات الطبية الناتجة عن الفحوصات أو التدخلات غير الضرورية، والامتناع عن إجراءات طبية إضافية غير مبرّرة
- مراقبة منهجية للسلوكيات المرضية وتقليل المكافآت غير المقصودة (أي تجنب تعزيز المريض من خلال الاهتمام الزائد بالأعراض)
أنه من المهم أن تُبنى الخطة العلاجية على علاقة ثقة بين المريض والمعالج، مع مراعاة التعاطف وعدم الوصم.
طرق الوقاية من الاضطراب المفتعل
ليس هناك طريقة مؤكدة تمنع ظهور الاضطراب المفتعل لأن الأسباب النفسية غير واضحة تمامًا ولا توجد آلية معلومة تمنع الدوافع الباطنية من الظهور. لكن التدخّل المبكر عند ملاحظة سلوكيات غامضة أو تصلب في الشكاوى المرضية يمكن أن يقلّل من الأذى الناتج، ويمنع التفجّر في مضاعفات خطيرة.
يُعدّ تعزيز الصحة النفسية، ودعم الأشخاص الذين لديهم تاريخ من الصدمات أو اضطرابات الشخصية، وتشجيع التعبير النفسي السليم بدلاً من التعبير المرضي من الوسائل التي قد تساهم في التقليل من احتمال تحول الأزمات النفسية إلى سلوك مفتعل. كذلك فإن وجود نظام رعاية صحية منسّق وعدم التشتّت بين أطباء متعددين قد يقلل من فرص المغالاة أو التداخل الذي يسمح بظهور الاضطراب دون اكتشاف مبكر.
ختامًا…
إذا كنت تمرّ بسلوك مستمر من تصنيع الأعراض أو تلاعب في حالتك الصحية بطريقة تشعرين أنها خارجة عن السيطرة، فقد تكون هذه علامات تدل على وجود اضطراب مفتعل. لا تنتظر حتى تتفاقم الأعراض — التشخيص والعلاج النفسي المبكر يمكن أن يحدّ كثيرًا من المخاطر البدنية والنفسية.
المصادر المستعملة لكتابة المقال
منظمات دولية وهيئات طبية
Factitious disorder – Symptoms and causes – Mayo Clinic
Factitious Disorder – StatPearls – NCBI Bookshelf
مصادر أكاديمية وطبية
Factitious Disorder Imposed on Another (FDIA): What It Is
Factitious Disorders: Background, Diagnostic Criteria, Epidemiology



