اضطراب الانفصال عن الواقع: أسبابه وطرق علاجه

يشهد العالم النفسي تزايدًا في حالات الاضطرابات التي تؤثر على الإدراك والوعي، ومن بين هذه الحالات ما يُعرف بـ”اضطراب الانفصال عن الواقع” أو ما يُصطلح عليه في الأدبيات النفسية باسم اضطراب تبدد الواقع وتبدد الشخصية (Depersonalization-Derealization Disorder – DDD). هذا الاضطراب يعبر عن تجربة ذهنية معقدة يعاني فيها الفرد من شعور بالانفصال عن ذاته أو عن العالم المحيط به، كأنه يشاهد حياته من الخارج أو أن الأشياء من حوله تبدو غريبة أو غير حقيقية.

في هذا المقال، سنقوم بتوضيح المفهوم العلمي لهذا الاضطراب، وأبرز أعراضه، وأسبابه المحتملة، وأنواعه، وكيف يتم تشخيصه، بالإضافة إلى طرق العلاج والوقاية. الهدف من هذا العرض هو مساعدة المهتمين بمجال الصحة النفسية، سواء كانوا باحثين أو طلابًا أو مختصين، في فهم أعمق لهذا الاضطراب، من أجل تحسين الوعي، وتقليل الوصمة، وتعزيز فرص التدخل المبكر.

مفهوم اضطراب الانفصال عن الواقع

اضطراب الانفصال عن الواقع هو أحد اضطرابات الانشقاق أو الانفصام (Dissociative Disorders) التي تؤثر على طريقة إدراك الفرد لذاته أو للبيئة المحيطة به. يتميز هذا الاضطراب بشعور متكرر أو دائم بفقدان الاتصال بالذات (تبدد الشخصية) أو بالعالم الخارجي (تبدد الواقع)، دون أن يفقد الشخص الوعي أو الإدراك التام.

الشخص المصاب قد يشعر وكأنه يراقب نفسه من خارج جسده، أو أن الأشياء من حوله ضبابية، أو تبدو وكأنها في حلم. وعلى الرغم من أن الشخص يُدرك أن هذه المشاعر غير طبيعية وليست واقعية، إلا أنه لا يستطيع التخلص منها بسهولة.

هذا الاضطراب ليس نتيجة تعاطي مواد مخدرة أو حالة طبية أخرى، ويؤثر بشكل كبير على الأداء اليومي والعلاقات الاجتماعية والوظيفية. غالبًا ما يُعدّ رد فعل نفسيًا دفاعيًا تجاه صدمة نفسية أو ضغوط مزمنة، ويصنف ضمن الاضطرابات النفسية وفق التصنيفات العالمية مثل DSM-5.

أعراض اضطراب الانفصال عن الواقع

تتراوح أعراض اضطراب الانفصال عن الواقع بين الشعور بالتشوش في الإحساس بالذات، والانفصال عن العالم الخارجي. يعاني المصاب من حالة وعي شاذة تتكرر أو تستمر لفترات طويلة، ويصف كثيرون الأعراض بأنها شعور دائم بالضبابية أو كأنهم في حلم لا ينتهي.

تشمل الأعراض الشائعة شعور الشخص بأنه غريب عن جسده أو أفكاره، كأن هناك “مسافة” بينه وبين نفسه، وقد يشعر وكأنه يشاهد نفسه من الخارج. أما في حالة تبدد الواقع، فيشعر الفرد بأن العالم من حوله غير واقعي، مثل مشاهد تلفزيونية أو عالم افتراضي. الأصوات قد تبدو بعيدة أو مشوشة، والألوان باهتة، وقد يفقد الشخص الإحساس بالزمن.

هذه الأعراض تسبب انزعاجًا شديدًا وتؤثر على العلاقات والقدرة على أداء المهام اليومية. الجدير بالذكر أن الشخص يظل محتفظًا بإدراكه أن هذه التجارب غير واقعية، مما يميز هذا الاضطراب عن الذهان.

أسباب اضطراب الانفصال عن الواقع

تتعدد الأسباب التي قد تسهم في تطور اضطراب الانفصال عن الواقع، ومنها:

• الصدمة النفسية الشديدة: مثل التعرض لحادث، اعتداء، أو عنف في الطفولة.
• الإجهاد المزمن: ضغوط الحياة اليومية، القلق المستمر أو نوبات الهلع.
• الاضطرابات النفسية المصاحبة: مثل الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، أو اضطراب القلق العام.
• العوامل الوراثية: وجود تاريخ عائلي للاضطرابات النفسية.
• الاختلالات الكيميائية في الدماغ: خاصةً في مناطق الدماغ المسؤولة عن الإدراك والوعي الذاتي.
• قلة النوم أو الحرمان منه لفترات طويلة.
• تجارب استخدام مواد مخدرة أو عقاقير تؤثر على الوعي، والتي قد تُحفّز نوبات من تبدد الواقع، حتى بعد التوقف عن استخدامها.

أنواع اضطراب الانفصال عن الواقع

يصنّف اضطراب الانفصال عن الواقع إلى نوعين رئيسيين:

• تبدد الشخصية (Depersonalization):
  • يشعر الشخص بانفصال عن ذاته، كأنه يشاهد نفسه من الخارج.
  • الإحساس بجسده أو مشاعره قد يبدو غير حقيقي أو غريبًا.
  • غالبًا ما يوصف وكأن الشخص “روبوت” يتحرك دون تحكم واعٍ.
• تبدد الواقع (Derealization):
  • الإحساس بأن البيئة المحيطة غير واقعية.
  • الأشياء تبدو مشوشة، ضبابية، أو كأنها من مشهد سينمائي.
  • قد يصف المريض العالم بأنه “مسطح” أو “خالٍ من الحياة”.

يمكن أن يعاني الشخص من أحد النوعين أو كليهما في الوقت ذاته.

طرق تشخيص اضطراب الانفصال عن الواقع

يعتمد تشخيص اضطراب الانفصال عن الواقع على التقييم السريري الشامل من قبل طبيب نفسي مختص. لا توجد فحوصات مخبرية محددة لتشخيصه، بل يتم استخدام المقابلات النفسية والتاريخ الطبي والنفسي للمريض لتحديد وجود الأعراض، تكرارها، ومدى تأثيرها على الحياة اليومية.

يجب أن تكون الأعراض متكررة أو مستمرة، وتُسبب انزعاجًا نفسيًا كبيرًا أو خللاً في الأداء الاجتماعي أو المهني. من المهم استبعاد أن تكون الأعراض نتيجة اضطراب نفسي آخر (مثل الفصام أو الاضطراب ثنائي القطب)، أو تأثيرات مباشرة لمادة مخدرة، أو حالة طبية عصبية مثل الصرع أو إصابات الدماغ.

في بعض الحالات، قد تُستخدم أدوات تقييم مثل مقياس تبدد الشخصية وتبدد الواقع (Cambridge Depersonalization Scale)، لمساعدة الطبيب في تقدير شدة الاضطراب.

طرق علاج اضطراب الانفصال عن الواقع

لا يوجد دواء مخصص حصريًا لعلاج اضطراب الانفصال عن الواقع، لكن يمكن تخفيف الأعراض من خلال مزيج من العلاجات النفسية والدعم الدوائي في بعض الحالات. تشمل طرق العلاج:

• العلاج السلوكي المعرفي (CBT):
  • يُعد من أكثر الأساليب فعالية، حيث يساعد على إعادة بناء الأفكار غير الواقعية وتحسين مهارات التكيف.
• العلاج بالتقبل والالتزام (ACT):
  • يهدف إلى تحسين مرونة الفرد النفسية، وتقبل المشاعر بدلاً من مقاومتها.
• العلاج بالتعرض وإعادة المعالجة عبر حركة العينين (EMDR):
  • يُستخدم خصوصًا في الحالات المرتبطة بصدمة نفسية.
• العلاج الدوائي:
  • يمكن استخدام مضادات الاكتئاب (مثل مثبطات السيروتونين SSRIs) أو مضادات القلق تحت إشراف طبي.
• تمارين الوعي الحسي (Grounding techniques):
  • تساعد الشخص على البقاء في “اللحظة الحالية” وتقليل الانفصال الإدراكي.
• العلاج الجماعي أو مجموعات الدعم:
  • توفر بيئة تشاركية وتقلل من الشعور بالعزلة.
• العلاج النفسي الديناميكي:
  • يهدف إلى كشف الصراعات اللاواعية التي قد تساهم في ظهور الأعراض.

طرق الوقاية من اضطراب الانفصال عن الواقع

في الواقع، من الصعب التنبؤ أو الوقاية التامة من اضطراب الانفصال عن الواقع، نظرًا لأنه غالبًا ما يرتبط بتجارب صادمة أو ضغوط شديدة. إلا أن هناك بعض الخطوات التي قد تقلل من خطر الإصابة أو تفاقم الحالة في حال ظهور أعراض مبكرة.

تشمل الوقاية تعزيز الوعي النفسي ومهارات التأقلم مع الضغوط، وتقديم الدعم النفسي المبكر للأطفال والمراهقين الذين مروا بتجارب مؤلمة. كما أن تقنيات إدارة التوتر، مثل التأمل، والتنفس العميق، والنوم الجيد، تلعب دورًا مهمًا في تقوية الجهاز النفسي. من الضروري أيضًا تجنب تعاطي المواد المخدرة والمنبهات التي قد تُحفّز أو تزيد من الأعراض.

الحصول على علاج نفسي مبكر عند ملاحظة أعراض انفصالية أو مشاعر غريبة بشأن الذات أو الواقع يمكن أن يُقلل من احتمالية تطور الاضطراب.

في الختام

اضطراب الانفصال عن الواقع هو تجربة معقدة ومربكة، لكنه قابل للعلاج والتحكم إذا ما تم التعرف عليه مبكرًا والحصول على الدعم المناسب. يظل الوعي المجتمعي والمهني بهذا الاضطراب أمرًا ضروريًا، خاصةً في ظل ضغوط الحياة المتزايدة، وحالات الصدمة النفسية التي قد يمر بها الأفراد.

على الباحثين والمهتمين في مجال الصحة النفسية أن يدركوا أن اضطراب الانفصال عن الواقع لا يعني الجنون أو الانفصال الكامل عن العالم، بل هو محاولة من النفس للدفاع عن ذاتها ضد الألم النفسي. إن تعزيز بيئة داعمة، وفهم الأعراض، ومتابعة العلاجات النفسية المتقدمة، يمكن أن يساهم بشكل كبير في تحسين جودة حياة المصابين، وتقليل الأثر النفسي طويل الأمد.

المصادر المستعملة لكتابة المقال

منظمات دولية وهيئات طبية

Dissociative disorders – NHS

Dissociative disorders – Symptoms and causes – Mayo Clinic

مصادر أكاديمية وطبية

Psychiatry.org – What Are Dissociative Disorders?

Dissociative Disorders | National Alliance on Mental Illness (NAMI)

مقالات ومصادر متعمقة

Dissociation and dissociative disorders | Better Health Channel